الرسم التصويري والرسم الكاريكاتوري
الرسم التصويري والرسم الكاريكاتوري
دراسة فنية بين نمطين من الرسم، نشرت في موقع الكارتون السوري 2009، أسامه السلطي، دمشق 10.04.2009
منذ البدء كان الرسم
كان شغف كل من مسك أداة للرسم منذ بدء التاريخ هو تصوير المحيط الطبيعي بأشكاله وتصوير الوجه الانساني واخراج نسبه وأبعاده بالطريقة الأمثل. فتطور الرؤية الفنية للشكل المرسوم في ذاك الوقت تبع التطور الذي حل بالانسان، فأسلوب تفكيره تتطور، وتغيرت وسائل معيشته، ورؤيته للمحيط حوله بدأت تأخذ هيئة الحدث أو القصة.
وفي يوم كانت لعين الانسان وعيا كافيا لتعي عدم واقعية رسومه بقطعة فحم على جدار كهفه، فثارت وأخرجت من يده خطوطا أنضج وألوانا أقوى.
في البدء كانت الكلمة، وفي البدء كان الرسم. فحاجة التواصل بين الانسان والانسان اضطرته لاخراج لغة يتفاهموها، فكانت الكلمة. وحاجته للتعبير عن ذاته دعته للغناء والعزف والرسم، اضافة لتسجيل أحداث حياته ويومياته وحروبه وعشقه، فكان الرسم.
الكاريكاتور وليد التصوير:
اذا تتبعنا تطور فن الكاريكاتير سيعيدنا تطوره الى بدايات تطور الانسان الحضري، فالمعابد والقصور ومدافن الموتى كالاهرامات ما تزال تحكي روايات وأحداث عن طقوس دينية وحروب وغيرها. ولنأخذ مثلا الحروب، التي ما كانت لتنتهي حتى يبدأ الفنانون برسم ملكهم يقاتل ويقتل أعدائهم الذين رسموا اما بمظهر مضحك يتقهقرون أو بمشهد دموي يعبر عن قوة قائدهم. من هنا اتخذ الكاريكاتور خطوطه الأساسية ووضعت له قواعد. ولنرى اللوحة التالية من معبد فرعوني تعبر تماما عن أسلوب موحد رسم به فنانو الفراعنة يبدأ بخطوط سوداء تحدد الأشكال ثم مجموعة ألوان أساسية.
والجدير بالذكر هنا هو أنهم رسموا رسوما ذات بعدين فقط ولم يرسموا بعدا ثالثا ولم يعطوا أي عمق لرسومهم الجدارية، على الرغم من أنهم درسوا البعد الثالث ونجحوا في بناء تماثيل عظيمة تدل على دراية تامة بالابعاد الثلاثة.
لم تكن رسومهم عبثية بل كانت منظمة ضمن فكرة وروح واحدة تأسر المشاهد وتجعله يضيع في التفاصيل. ولم يكن ابراز أبطال الرسوم واضحا تماما فكثيرا ما تضيع العين في تفاصيل كثيرة تهمل الفكرة الرئيسية وتغيب ضمن وحي عام.
إحدى النقاط المهمة أيضا أنهم سعوا باتجاه توظيف الرسوم، فأتت رسومهم على مواقف أكثر منها تصويرا شخصيا لشخصية أحادية ضمن منظر واحد لا يحوي فكرة من حيث الحدث وانما يحوي انطباعا من حيث الكلية، فرسمهم يتكامل ضمن فكرة او حدث اكثر من تكامله ضمن روح.
يتضح هنا أن اللوحة الكاريكاتورية التي لها عناصر هي: الخطوط، الفكرة أو الحدث، وعدم وجود بعد ثالث، ولدت من ضرورة تصويرية.
ولم يكن هذا التطور تفردا للحضارة الفرعونية فقط، وانما حدثا مميزا أغفلنا عن ذكر حضارات أخرى.
- رسم فرعوني جداري يصور رهائن الحرب من العبيد
- رسم فرعوني يصور طقوس الصيد لدى ملوك الفراعنة
حداثة الكاريكاتور؟
أسلفنا أن ولادة الكاريكاتور كقواعد تزامنت مع الارتقاء الحضري للانسان. ولكنه لم يتخذ شكله الحديث الحالي الا ضمن حداثة لتلك القواعد وزيادة في تمييزه عن الرسم التصويري.
تناغمت فكرة الرسم الكاريكاتوري مع فكرة السخرية من الانسان ومن طبائعه ومواقفه الحياتية، وارتبط الرسم الكاريكاتوري بعدة خطوط عريضة ليكون متميزا عن الرسم التصويري.
أولا لنتكلم عن تطور الرسم التصويري بسرعة، فقد نشأ مع بصيص التاريخ، وتطور ليصور الطبيعة والانسان، وخرج عن المألوف أو الواقع حين صور ميثولوجيا وأساطير الاغريق والرومان، وعاد الى أكناف الطبيعة بعد أن كثرت تقنياته وتعاظم رساموه وتفاخر مقتنو لوحاته حتى بات الشغل الشاغل لفناني عصر النهضة هو تصوير الدوق والأمير وحتى الموظف أو الخادم مثلا بأفضل حال وبتوضع للشخصية ضمن اللوحة يوحي بأهمية ومركز كبيرين للشخصية المرسومة بغض النظر عنها في الواقع.
وهنا ظهرت مدارس كثيرة بعضها اعتمد على اهمال الخلفية خلف الشخصية أو مجموعة الشخصيات المرسومة بلعبة من النور والظل حتى يركز الاهتمام على الشخصية، وبعضهم أعطى أهمية مبالغ فيها بكل تفاصيل اللوحة ليصور مشهدا حقيقيا. وكثرت تفاصيل الشخصيات ومحاولة الصاق أي موقف معها ضمن اللوحة، فكان رسم منديل مع الشخصية المرسومة كفيل باعطاء مشاعر أخرى عن هذه الشخصية. هذه المبالغات في الرسم التصويري سواء كان باهمال الخلفية أم لا أو بكثرة التفاصيل عامة، خلقت تطورا حتميا لضرورة ايجاد موقف أو حدث يضبط الشخصيات في لوحة تصويرية. وبالطبع كان هناك رواد في التصوير مثلوا مواقف وأحداث ضمن لوحات بالغوا أيضا في تفاصيلها وكبر أحجامها.
والضرورة القصوى بلغت الذروة حين أراد الرسامون آن ذاك رسم موقف غاية في الاضحاك والسخرية، ولكن ذلك لم يكن ليتم بسبب عدم رغبة المشاهد برؤية موقف ساخر وعدم رغبة الاشخاص المرسومين بالظهور بشكل مضحك. والأسباب كلها مردها الوضع الاجتماعي للناس وقتها ومجموعة القيم والمثل التي تضبطها. فالغني لايقبل أن يرسم الا بوضع يعطي الهيبة والوقار وكذلك الفقير يتمنى أن يرسم بتلك الطريقة.
عوامل مساعدة كثيرة ساعدت بظهور أول رسم كايركاتوري مؤرخ، مثل انتشار الصحف والمنشورات المطبوعة والاعلانات ولافتات المتاجر، وبشكل أكيد فان العامل الاساسي هو دخول البشرية بصورة عامة في بداية حياة مدينية معقدة بالشكل الذي يتطلب النقد والهجاء والسخرية.
في نهايات القرن الثامن عشر بزغ رسام كان له فضل كبير بوضع لمسات الكاريكاتور ضمن لوحاته، فرسم عدة لوحات بعضها موجود في المتحف الوطني البريطاني. وحتى أنه رسم نفسه بموقف هزلي ليبرهن قدرة الرسام التصويرية على اعطاء الهزل والسخرية في رسومه حتى اتجاه نفسه، قد يؤرخ الرسام البريطاني Thomas Rowlandson بداية واضحة للكاريكاتور ضمن لوحات كلوحته “ميناء بورتسماوث” ولوحته الشخصية بعنوان “الذواقة بغير ارتياح” المرسومة عام 1787. وهنا نميز بوضوح أسلوبا متطورا تماما عن التصوير الكلاسيكي.
- ميناء بورتسماوث للرسام البريطاني Thomas Rowlandson
- بورتريه شخصي للرسام Thomas Rowlandson “الذواقة بغير ارتياح” 1787
- غلاف كتاب Macaronis 1771
وفي عام 1841 أطلقت الطبعة الاولى لمجلة Punch الانكليزية وحمل غلافها الأول رسما لشخصية بانش وعفريت صغير. وكان له المعنى المتكامل للرسم الكاريكاتوري، فنرى أن خطوط عنوان المجلة واسمها اتخذ شكل السخرية، ورسم العفريت الصغير مع شخصية المجلة Mr. Punch بالحبر الأسود خرج عن الشكل الكلاسيكي للتصوير.
في العام 1843 نشر في عدد من مجلة Punch رسم كاريكاتوري للرسام John Leech يصور مجموعة من الناس في قصر ويست مينيستر معظمهم من الفقراء والمشردين ينظرون في لوحات تصويرية كلاسيكية معلقة على جدران القصر، وهذا هجاء ونقد في الأسلوب الكلاسيكي للتصوير. وقد يعتبر بعض المؤرخين والنقاد أن هذا الرسم يؤرخ لأول بداية حقيقية لرسم كاريكاتوري ساخر ومتكامل.
على الرغم من التطور الذي بلغه الرسم التصويري باتجاه الكاريكاتور منذ عصور النهضة وحتى أوائل القرن العشرين فان الرسم الكاريكاتوري اتخذ شكله الحالي من نظرة ما بعد الحداثة بعد تطور سريع جدا حدث في الفترة نفسها التي استدعت تطور التصوير. أي أن تطوران قد حدثا في نفس الفترة كان لأحدها صيغة نقل نوعية وبطيئة ومحاربة من قبل الفنانين الكلاسيكين، والأخرى سريعة لم تؤثر الا في المضمون ولم يتقبلها المشاهدون بسهولة وهي التي امتدت الى ما بعد الحداثة.
- غلاف الطبعة الاولى لمجلة Punch الانكليزية
- رسم كاريكاتوري لـ John Leech ، سخرية من الرسوم في قصر Westminster ، 1843 مجلة Punch
ما بعد الحداثة
هذا التطور الأخير بدأ بشكله الأولي في بدايات القرن التاسع عشر، متزامنا مع التطور الذي أسلفنا ذكره عن تطور الرسم الكاريكاتوري، فاشتهر رسامون في بريطانيا مثلا برسوم ذات نقد وهجاء للعائلة الملكية وسخرية من مواقفهم. وفي العام 1805 اختير رسم كاريكاتوري يصور نابليون مع رئيس الوزراء البريطاني Pitt للرسام James Gillray كأفضل رسم كاريكاتوري في بريطانيا.
يحوي الرسم نقطة مهمة في مرحلة ما بعد الحداثة وهي خلق الاشكالية. أي ايجاد توظيف لعنصر ضمن اللوحة يخرج تمام عن الواقع أو المألوف بل ويحلق به في دنيا الخيال، ليعطي المشاهد أولا صدمة التوظيف الغير اعتيادي ثم يترك له الخيال الكافي ليرى ما يستطيع رؤيته ضمن اللوحة.
في هذه اللوحة تم توظيف الكرة الارضية على أساس أنها وجبة طعام تتقاسمها الشخصيتان، وهذا كان ثورة بحد ذاتها في ذاك الزمن. ذلك أن المشاهد لم يتعود أن يرى مثل هذا “التطرف” في الرسم من قبل، واللوحة حركت في رأسه أفكار جديدة فاكتشف ما تحمله اللوحة من معنى ضمني وأفكار قوية.
في زماننا قد لا نرى هذه اللوحة بكل ذاك الحماس والاعجاب من ناحية الاستعارة التمثيلية للكرة الارضية فقط دون اهمال القيمة الفنية للوحة. وهذا طبيعي جدا تبعا لتطور ما بعد الحداثة الذي نعيشه. ففكرة الكرة الارضية تم استهلاكها ولم تعد تثير ذات الاعجاب في نفوس المشاهدين.
ولنرتب النقاط الأساسية التي حملت مفهوم ما بعد الحداثة حتى يومنا هذا:
– خلق الاشكالية في كون الشيء على غير طبيعته، أو توظيف الشيء ضمن اللوحة بأكثر من استخدام متناقض.
– توضيح التناقض بين طبيعة العناصر وطبيعة توظيفها وعلاقة الانسان بها.
– الاستعارة التمثيلية لعناصر معروفة بغية وضعها في اسقاطات مباشرة وغير مباشرة.
– اظهار مشاعر الانسان بشكل ساخر أو متعاطف.
– المبالغة في الألم أو الفرح أو الغضب أو الحزن….
– كثرة الوضوح أو الغموض.
– تجريد الأشكال والبساطة في العرض.
– سرعة ايصال الفكرة أي سهولة الاتصال البصري مع اللوحة.
– التقنيات المتعددة بما فيها التقنيات الرقمية كالكمبيوتر.
– الفكرة المركبة وتعدد أوجه تفسير الرسم.
هذه النقاط وغيرها من نقاط وتفاصيل تميز مرحلة ما بعد الحداثة عن مرحلة الحداثة في تطور الرسم التصويري، شكلت في يومنا هذا النتاج النهائي لفن الكاريكاتور على اعتباره فنا مستقلا بمفاهيمه وقواعده عن التصوير.
بقي أن نشير الى فرع مهم ويعتبر الفرع الأصل في مرحلة ما بعد الحداثة وهو الكاريكاتور الصحفي editorial caricature والذي بدأ مع بدايات الصحافة في العالم. ولنأخذ مثلا رسما يهجو رئيس الولايات المتحدة الامريكية ابراهام لينكولن للرسام Joseph Baker عام 1865. استعار الرسام هنا بخيط وابرة ليخيط بها خط السكة الحديدية على خريطة على الكرة الارضية. نرى أن الوضوح والاستعارة وخلق الاشكالية تتوفران ضمن هذا الرسم والأهم طبعا هو ما يميزه وهو التعليق والرؤية الصحفية للرسم في ذاك الوقت.
كنتيجة نرى أن وصول الكاريكاتور لوضعه الحالي مر بثلاث مراحل:
1- تطور فن التصوير.
2- تطور التصوير الى كاريكاتور.
3- تطور الكاريكاتور الى الوضع الحالي.
- رسم لنابليون وبيت، للرسام James Gillray 1805 بريطانيا
- رسم يسخر من ابراهام لينكولن، للرسام جوزيف باكر، 1865 الولايات المتحدة الامريكية
المصادر:
موقع مجلة بانش الانكليزية www.punch.co.uk
كتاب مجموعة رسوم من اصدار Punch ، ISBN 4-00-335631-4.
مكتبة الكونغرس الامريكي CALL NUMBER: PC/US – 1865.B1675, no. 3
موسوعة Wikipedia
أسامة السلطي
دمشق في 10/4/2009
يسلمووو كتيرررر حلو.
شكرا على الشرح… ولاننسى الشهيد ناجي العلي.