دعاء الصالحين
“Doa’a Al-Salheen” a short story by Osama Salti
دعاء الصالحين
وقف منتصبا ً بحماس، حمل مجموعة أوراق بيده، وبالأخرى أخذ يعبّر بها عن كلامه. فبسطها مرحبا ً مرة بالقاضي والمستشارين، ومرة ثانية مشيرا ً بها إلى المتهم في القفص.
ـ سيدي القاضي، سادتي المستشارين، قد يبدو لكم هذا المتهم بمظهره الرث البسيط وعينيه الذابلتين وابتسامته البائسة، مسكينا ً وضعيفا ً، بل قد تخونكم نظراتكم أكثر فتظنون به الوداعة والرحمة. وهو إن صح القول بداية ً، ألعن من إبليس!
ـ هذا المتهم الماثل بين حضراتكم قاتلٌ، محترف بدليل طريقة قتله للضحية. كما أنه من الدهاء أيضا ً أن غدر غدرا ً بطعنة في ظهر المجني عليه بسكين حادة نفذت إلى قلبه، فأردته بطعنة واحدة. وإن لعنات الحق عليه أقل بكثير من لعنة السماء، حيث أن الضحية من الورع والتقوى ما تخشع له الجبال. الضحية شيخٌ كبير في العمر والمنصب، شيخ ٌ مؤمن تقي، ولو أن الله جعل لبعض البشر عصمة عن الخطأ، لكان هذا الشيخ من المعصومين!
ـ سيدي القاضي حضرات المستشارين، الأدلة واضحة جلية، السكين الحادة أقصد أداة الجريمة موجودة، وهي تحمل بصمات المتهم، والدليل الأكبر هو اعتراف هذا المجرم بفعلته أمام المحقق العام، مدليا ً بتفاصيل الحادثة.
ـ لذا، وتطبيقا ً لأحكام جنايات القتل المنصوص عليها في قانون العقوبات عن جناية القتل المتعمد مع سبق الإصرار والترصد، أطالب بتنفيذ أقصى عقوبة، عقوبة الإعدام، بالمتهم لقتله المتعمد الشيخ نجيب الموظف في دائرة الأوقاف… أشكر هيئة المحكمة.
ـ هل يسمح لي القاضي بالكلام؟ قال الرجل خلف القضبان.
ـ هل وكلت محاميا ً؟ قال القاضي.
ـ لا.. ولا يهمني أي محامي، سأدافع عن نفسي.
ـ يجب أن توكل محاميا ً، وإن لم تفعل سأمر لك ب….
ـ كلا أرجوك.. قاطعه بسرعة.
ـ لا أحتاج لمن يتكلم عني، ثم من قال إني أحتاج واحدا ً، فالمحامي سيسعى لتبرئتي، وما أنا إلا مدان يطلب الآن ومن موقعه هذا وعلى مسمع الجميع تطبيق أقصى عقوبة على نفسه تماما ً كما قال المدعي العام!
ـ لست أنت من يصدر الحكم هنا! يجب ان نعرف دوافعك للقتل. قال المدعي العام.
ـ لا دوافع لي… أنا مذنب أستحق العقاب.
ـ ذكر التحقيق أنك اعترفت فورا ً بقتل الشيخ بسكين وجدت مع الضحية، ولكنه لم يذكر الأسباب. ماذا حدث قبيل قتلك له؟ ما هو السبب؟
ـ السبب… السبب هو الدعاء.
ـ دعاء! هل كان يدعو عليك مثلا ً؟
ـ كلا… كان يدعو لي! كلما دخلت مكتبه حاملا ً فنجان القهوة أو كأس الشاي، كان يدعو لي، ويطيل الدعاء بالصالح والخير…
ـ وهل هو إثم أن يدعو لك بالصلاح؟!
ـ نعم إثم!… إنه جريمة! يجب أن يعاقب القانون عليها!
ـ يعاقب! جريمة! هل تستطيع ذكر بعض تلك الأدعية الآن؟
ـ طبعا ً…هذه الدعوات لن أستطيع نسيانها ما حييت!
أذكر هذه جيدا ً: الله يبارك لك في قرشك ومعاشك ويوسع لك في رزقك.
واستمع لهذه أيضا: الله يجزيك الخير ويبارك لك في أهلك ويحفظ لك أولادك وزوجك ويحفظك من كل مرض.
بالله عليك! كيف لي أن يحملني عقلي وهو يقول كل هذا!
ـ كلنا نتمنى من يدعو لنا بالخير، ثم ما الذي أزعجك من الدعاء؟!
ـ سيدي، منذ ثلاث سنوات تم تعيين الشيخ نجيب في مكتبه. وكنت أقوم على تنظيف مكتبه يوميا ً وتحضير القهوة والشاي له. وفي كل يوم كان يدعو لي، كل يوم! تخيل!
ـ لم أفهم سبب ضيقك من دعائه؟!
ـ سأكمل… في السنة الأولى ازدادت الضرائب وتعالت الأسعار تناطح السحاب، وبات راتبي لا يكفيني أنا وزوجتي وعيالي نصف شهر. وما إن أطلت السنة الثانية حتى كنا مشردين في الشوارع لا نجد ما يستر رؤوسنا في الشتاء بسعر معقول، وزاد الأمر سوءا ً أن تتالت علينا الأمراض والأوجاع، وكان من قلة ذوقه وكثرة شره أن يدعو لنا فيكثر من الدعاء. وأذكر ذلك اليوم جيدا ً حين علم أن ابني الصغير أصابته حمى شديدة فرفع يديه إلى السماء يدعو له بالشفاء، هل تعلم ما حصل؟ توفي ابني في صباح اليوم التالي! وما إن وصله خبر الوفاة، حتى جاء مسرعا ً يعزيني بمصائبي في الغرفة الصغيرة التي نعيش فيها. تصور!
لم أصدق بداية، لكنه بدأ بالدعاء عندي! دعا لي ولزوجتي بالصبر والحلم والصحة وختام الأحزان، وما إن خرج من باب العش الصغير حتى انطرحت زوجتي على الأرض لا تتفوه بكلمة ولا حتى آه! كانت قد شلت تماما ً! هذا الشيخ بومة أو غراب، إنه أي شيء نحس! وفي السنة الثالثة دعا لزوجتي بالشفاء فتوفت هي الأخرى!
ودعا لي بالعافية من كل مرض، فأصبت بسكتة قلبية وضيق بالتنفس ورجفة في يدي لم تزل حتى الآن!
ومؤخرا ً دعا لولديّ بالتوفيق والنجاح، فطردا من المدرسة، ولا أدري أين هما الآن؟!
هل أنت معي أن الحق وكل الحق في قتله!؟
ـ لا أظن ذلك…فتلكم الأقدار ليس إلا، لا يمكنك لوم الشيخ. ثم إن ما قلته لا يكفي ذريعة لقتله فهو لم يخطئ معك أبدا ً.
ـ لم يخطئ! لقد دمّر حياتي بأدعيته!
ـ لا يكفي.. كلامك غير مقنع، ولا يندرج تحت أي باب من أبواب القانون المدني أو قانون العقوبات.
ـ قلت لك أنه أخطأ، هل تعلم ما قاله لي؟ أقصد ماذا قال لي حتى قتلته؟
ـ ماذا قال لك؟
ـ لقد دعا لي! دعا لي بطول العمر!
ـ وماذا تريد أفضل من ذلك؟!
ـ لا…لم تفهم قصدي.
ـ أه… فهمت الآن… تقصد أنك خشيت ألا يتحقق دعاؤه لك فيقصر عمرك. أليس كذلك؟
ـ كلا…كلا…
ـ ماذا إذا ً؟
ـ لأنه خلال السنوات الثلاث كان كلما دعا لي أو لزوجتي وأولادي يتبع دعاؤه بعبارة “الله يطوّل عمرك … الله يطوّل عمرك!”..
وقد بقيت حيا ً حتى الآن أعيش هذه الحياة البائسة… ذاك المنافق اللئيم!
أسامه السلطي
دمشق 2006