السجن
“Al-Sejn” a short story by Osama Salti, Damascus, 19/2/2005
نشرت في موقع سيريا نيوز بتاريخ 04.9.2010
الســــجـن
في صباحٍ ربيعيٍ صاف، داعبت نسمة لطيفة بستان العجوز فأصدرت حفيفاً خافتاً أخذ يكبر ثم يتلاشى بالصدى، وكأوتار قيثارة قديمة تدرج الصوت عبر سنابل القمح وأغصان الشجيرات ليلامس نشوة صباحية اغتنى بها العجوز وقد أخذ يتمطمط ويستشنق عذوبة باردة.
بدا له يومه مميزاً، رغم أنه كان كأي يوم من أيام الربيع..
أزاح بفكره العجوز رتابة الأيام، وهمّ يتفقد حديقته.
“صباح الخير يا وردة السلام”! ممسكاً بفرعٍ أزهر وردة بيضاء.
“صباحٌ جميل! آه يا عزيزتي لربما قد حان قطافك “!مخاطباً ثمرة برتقال تدلت من شجرة كبيرة.
” وأنت أيتها الفتية، ما حلّ بالبيض؟ متى سيولد أطفالك يا صغيرتي؟ ” و بابتسامة قالها وهو يتفقد عشاً في حائط قديم.
لم تكن أيامه سوى شريط سينمائي يدور كل يوم وكل ساعة، يعرض نفس التفاصيل، ونفس السيناريو، حتى حوار الشخصيات لم يتغير مذ كان العجوز شاباً.
ويمر النهار سريعاً، فيأكل العجوز من قوت الطبيعة، ولا ينفك أبداً يخاطب كل ما تقع عينه عليه.
يستلقي في حجرته محدقاً بالنافذة، يراقب نور النهار يولي، ليدلف الليل قبالة عينيه فجاءة فيستيقظ من أحلامه ويعاود نشاطه.
يصعد الى العلية، التي نصف سقفها مهدم، والنصف الآخر يؤول للسقوط. يتوّج العجوز نفسه ملكاً فيجلس على ردم السقف المنهار، هنيهة فيطاول الأشجار، وهنيهة أخرى يرمي بنفسه على الأرض ليرى النجوم ويكمل الحوار الذي بدأه صباحاً.
ـ هيهات يا زمن! كيف ألفى الشاب عجوزا في عالمه؟ ليت هذا السور يتلاشى في الأفق، ليت عيوني ترى الأفق أفقاً كما كانت تراه أيام الشباب.. آه يا زمن!
كان كثيرا ما يراقب ذاك السور، سوراً عالياً، تغطيه كثافة أشجار حراجية، صنوبر وسرو.. ترتفع في ذراه بقايا أسلاك شائكة، ذاك السور أعلى من عيني العجوز ولكنه ليس أضخم من أحلامه العجوزة.
حاجز اسمنتي، استحال هدمه بأيدي العجوز الواهنة، يحيط بالبستان من كل جانب، لا تتخلله بوابة أو فجوة أو شباك.
كان السور طوقاً يحيط بالبستان، ويطوّق عنق العجوز بأسوار حديدية.
ـ يا أيها الليل، هل ينجلي السور يوماً كما تنجلي أنت تحت زرقة السماء وضوء الشمس؟
فكما أعدّ النجوم كل ليلة.. أعدّ رؤوس البشر البعيدة تلك.
نعم، رؤوس بشرية، أناس مثلي، من لحم ودم، أعدّهم حين يبدون من بعيد خلف هذا السور المحيط بهم، أحصيهم، وقد باتوا أكثر من نجومك، ولمعوا بأشعارهم الملونة فأضاؤوا النهار وأشعلوا فيك لغزاً لن ينتهي!
ـ صديقي .. لماذا.. لماذا يَسجن هؤلاء الناس أنفسهم خلف هذه الحيطان؟
من سجنهم؟ ومن بنى هذا الفاصل اللعين؟
إني أراهم يتعذبون، يُقتلون، يجوعون، ولا ينامون… أرى تعاستهم خلف أسوار هذا السجن.
لماذا لا يجعلون باباً لسجنهم؟ من جلادهم حتى أقتله؟
أرأيت يا صديقي! حتى أنت أُفحمت بأجوبة لم تسمعها ولم أسمعها.
كم أتمنى أن يثور هؤلاء الناس في سجنهم فيحطموا قيودهم بأسنانهم ويصعد بعضهم فوق أكتاف بعض ويقفزوا فوق الجدران، ليملكوا حريتهم المسلوبة، ويذوقوا السعادة الحقيقية في هذه الدنيا.
تباً لهذا السجن!
لم يستطع السور تغطية كامل الأفق، فبدت الشمس في الصباح بازغةً من عمق غفوة، توقظ العجوز، وتوقظ الناس!
ومن شعاع الصباح يتراءى للعجوز رجال يقتربون من السور يتحدثون ويتجادلون، وقد أثقل الزمن سمع العجوز وأبكم بالنسبة له كل كلمة تبعد بُعد السور عنه.
ـ الرجال يحاولون الهروب …. الرجال أشداء …. الحرية لهم!
كان الرجال يتساءلون، أهذا الحقل بقايا مشفى للمجانين أم هو قصر مهجور؟ أم معسكر خاو؟
وتساءل البعض ان كان هذا سجناً قديماً يجب ردمه تواً.
أسامه السلطي
دمشق، 19/2/2005