قبعة ولحن
“Qoba’a Wa Lahn” a short story by Osama Salti, Damascus April 2004
نشرت في موقع سيريا نيوز بتاريخ 10.4.2010
قبعة ولحن
-1-
استيقظت الفتاة صباح ذات يوم على صوت عصافير تتغنى ببعضها قرب نافذة غرفتها، نهضت من الفراش إلى النافذة مباشرة متأملة صباح يوم ربيعي يحمل عبقات التفاؤل بين ألوانه البهية.
انتزعت من الربيع أحلامها التي تصلي كل يوم أن تتحقق، وألبست وجهها ابتسامة صغيرة حمدت الله أنها تملكها، لأنه لم يبق لها جمال إلا وسرقه الربيع، واحتَلَت به الطبيعة بعيداً عن وجهها الذي طالما أنفر كثيرين وأخاف الأطفال.
نظرت في المرآة كما كل يوم، وتحققت من أن الساحرة التي جعلت سندريلا أجمل الجميلات لم تزرها الليلة الماضية.
ارتدت فستانها ذا التقسيمات الغريبة التي لا تلائم جسماً إلا جسمها، وانتعلت نعلها الخشبي القاسي والذي أخذ يصدر صوت مشية الأنثى المتأنية الواثقة الهادئة التي ترجو أن تصبح هي… أصدر نعلها صوتاً لا يدل على حسنها وجمالها وذلك عندما ذهبت للتسوق.
-2-
في السـاحة العامة حيث تفترق الطرق المرصـوفة بالحجـارة تمر جموع الناس كلٌ لقضاء حوائجه. وكانت تعبر الطرق مع تلك الجموع، تلقي التحيـة على بعض معـارفها، تبتـاع ما تعده للطعام، وتقف كثيرا عند متاجر العطور والتجميل، تحاول أن تجد ما يغطي وجهها الكئيب الممتلئ بالشقوق، وما يجمّل خديها البارزين الحاملين بقايا بثور..
ولكن عبثاً، حاولت جهدها.
-3-
لم يبق لها من الصديقات إلا بقايـا أسماء وذكريات جميلـة، كلهن تزوجن ورحلن في قصة حب واستقرار.
كم تمنت لو يأتها رجل واحد، أعرج، أعمى، بشع… لا يهم، المهم شخص يعطي حياتها كأنثى معنى.. هكذا كانت تفكر.
تذكرت أنها تعرفت على شاب كان يرافق والده في رعي الأغنام، كانت قد أحبته، ولم تكن تدري أبادلها يوماً ذلك الشعور أم لا؟
تذكرت جيداً عندما باحت له بحبها بعد أن تكلما معاً لأيام قرب الساقية، تكلما عن كل شيء، شعرت بالحب يتأجج على طرف لسانها فتكلمت معه عن الحب والارتباط، وانتهى بها الكلام لتبوح له بخوالجها.
تذكرت كيف تفاجأ وقال لها بصوت هادئ خوفاً من الصدمة ” ربما تسرعتِ قليلاً، ثم إنك….”
ـ بشعة! صاحت به.
ـ لا أقصد… إن لك شخصية جميلة، وتجيدين الكلام، لكن لا أعتقد أن الفتاة هي التي يجب أن تبوح بالحب أولا.. تلك حياة الراعي، لقد أدهشتني فحسب..
ـ إن كنت أحببت شخصيتي فتصرف كراعٍ أو فارس.
كان يعلم جيداً أن الفارس يحب الشخص لشخصه لا لجماله وماله وكذلك كان الرعاة، وأدرك جيداً أنها تريد منه أن يمسك ويقبل يدها بعد أن ينحني ويجثو على ركبتيه.
تركها وحيدة عند الساقية، ركض نحو أغنامه، عانقها، ولم يعد يأتي إلى الساقية أبداً.
زادت مخاوفها من نفسها لقباحة مظهرها، غابت ثقتها بنفسها تماماً، حتى أنها لم تعد تكلّم الناس كثيراً، ابتعدت عن الدنيا، وغدت حياتها وحيدة يتخللها بعض العبارات الرسمية كالتحية والشكر.
-4-
أسرعت خطاها عائدة إلى منزلها المنسي وراء أجمة شجيرات غطت بعض الجدران هناك.
قرب كتف الطريق المؤدي إلى الأجمة، اتكأ رجلٌ وسيم على جدار، أدلى بقبعته الكبيرة إلى نصف وجهه، يدخن بهدوء ولا يكترث بالمارة أبداً. سمع من بعيد صوت نعلٍ أنثوي، اقترب الصوت أكثر فأكثر، كانت خطى واثقة تنبؤ بأنثى رزينة تمللك من الجمال ما يشبع العين بنظرة واحدة.
تخيل الرجل مظهر صاحبة النعل الذي ملأ الطريق صدىً يدفع بالفضول للنظر لتلك الأنثى المارة.
لم يرفع قبعته أبداً ولم يختلس أية نظرة خلف القبعة، ولم يحرك رأسه حتى…
لمحته بعينها لمحةً سريعة، وواصلت سيرها.
عادت مسرعة إلى بيتها، أوقدت النار، وجعلت ما بقي من اليوم يمر مثل كل يوم، فحاكت فستان إحدى النسوة، وجلست أمام المرآة تُقسِم على نفسها بالجمال من أجل يوم جديد.
-5-
فتحت عينيها كالبارحة، على زقزقة عصافير الأجمة.
انتعلت حذاءها الخشبي، وأغلقت الباب جيداً خلفها ومضت..
وما إن وصلت لبداية مفترق الساحة حتى سمعت صوت رجل، أوحى لها الصوت برجولة متألقة.
لم تفض كلمات الرجل المتكئ والذي أخفى وجهه بقبعته بشيء في نفس الفتاة وقلبها، فكما دخلت من أذنها قررت أن تخرجها من الأذن الأخرى دون معاينة.
بعد أن ابتعدت كثيراً عنه، التمسها صوت معاتباً إياها.
لم تكن سمعت قبل هذا اليوم جملة “كصباح الخير يا جميل”، وما تخيلت أنه من الممكن أن يقولها رجل لها.
شتمت نفسها كثيراً، ولعنت حظها الذي صنعته بنفسها هذه المرة، لم تستطع لوم أحدٍ غير نفسها.
أغلقت الموضوع وهي تغلق الباب جيداً قبل أن تخلد إلى النوم.
-6-
قررت في الصباح التالي، أن تتزين بأفضل ما لديها من زينة وعطور.
لبست أجمل فساتينها، وخرجت مسرعة نحو بدايـة الطريق حيث الرجل صـاحب الكلام الجميل والقبعة الجميلة.
ـ يا صباح الأنوثة الرائعة، قالها عندما سمع صوت نعلها قربه.
ـ صباحك جميل.
ـ ليس أجمل منك!
صمتت واحمر وجهها، اضطربت وعادت مسرعة إلى البيت. لم يسبق أن قالها أحدهم لها.
أمسكت قبضة الباب بحنان ودفعتها ولم تغلق الباب خلفها.
ركضت نحو سريرها، رمت نفسـها فرحة، ثم حدقت بالنافذة قبالة السـرير، رأت الدنيا تلف بها، وشعرت أن الربيع قد حلّ أخيراً في غرفتها المظلمة.
تسارعت دقات قلبها حين تذكرت كلماته، صوته، ووسامة فمه وهو ينطق بالجمال، وأي جمال؟! جمالها هذه المرة.
ـ قال لي أني جميلة! ابتسمت.
-7-
يومٌ آخر جديد، دافعت نفسها لتخرج فوراً إليه.
ـ صباح الخير. همسها بهدوء لأنه أدرك أنها قريبة منه لقرب صوت نعلها منه.
ـ صباح الخير.
لم يرفع قبعته، واكتفى بالابتسام فقط وهزّ رأسه قليلاً.
اعتقدتْ أنه خجول.
ومشتْ نحو السوق.
بحثت عن حذاء جديد تشتريه، فاشترت واحداً جلدياً. لبسته على الفور ووضعت الخشبي القديم في علبة الجديد، ومشت خطوات مبعثرة تجربه، لم يصدر أي صوت كما كان الخشبي يفعل.
أرادت أن تمشي به قرب الرجل ذي القبعة.
صادفته في الساحة هذه المرة، جالساً على كرسي خشبي في وسط الساحة. اقتربت منه، لكنه لم يعرها أي اهتمام، اقتربت أكثر فأكثر، حاولت التقاط كلمة ولو كانت خافتة، لكن الرجل رفع رأسه قليلاً، حرك قبعته مغطياً وجهه ولم ينطق ببنت شفة.
جلست على كرسيٍ قريب، لم تقل شيئاً، شعرت بخيبة أمل، ولم يحرك الرجل شيئاً.
رفعت عينيها إلى السماء، شعرت بالكون يضيق على صدرها، صدمة تهزها أن تستيقظ من الحلم، فربما سامرها حلمها ليلة أو ليلتين ولكن ليس لها أن تبقيه في نفسها طالما أن رجلها خشبة لا تتكلم ولا تتحرك..
تركته في الساحة، كما تركت حذاءها الخشبي القديم في العلبة الجديدة على الكرسي.
مشت.. ومشت …
-8-
“تأخر الوقت ” قال الرجل في نفسه.
” الذنب ذنبي، ما كان لأغير مكان لقائي بتلك الأنثى ذات النعل الخشبي والعطر الجميل، لكني لم أعد أعلم كيف وصلتُ إلى ذلك الجدار الذي اتكأت عليه طويلاً، لم أعد أجده حيث كان “.
ووقف منتصباً وأمسك عكازاً طويلة وأدلى بالقبعة على وجهه، ومشى وهو يضرب الأرض بالعكاز متلمساً طريقه كي لا يتعثر، ما كان ليجد ذلك الجدار بالعصا، لأنه كان يبحث عن أنثى، أية أنثى، عرجاء، عمياء، بشعة،… لا يهم… المهم أنثى تعطي حياته كرجل معنى، هكذا كان يفكر.
ـ لن تتزوج أنثى جميلة من رجل أعمى..
قالها مستهزئاً….
وعند الغروب كان قد أنهى نزول الدرجات المؤدية إلى خارج القرية.
وعند الغروب كانت قد رمت كل معدات ومواد التجميل والعطور خارج منزلها..
أسامه السلطي
دمشق، 4/2004
super like…..
Thanks!